السياسة الخارجية لبايدن- جمود الإدارة وتحديات عالمية متصاعدة

على الرغم من أن الرئيس جو بايدن يُعتبر من بين الرؤساء الأمريكيين الأكثر خبرة وإلمامًا بشؤون السياسة الخارجية، وذلك بفضل مسيرته المهنية الطويلة وخبراته المتراكمة على مدى ما يقارب نصف قرن، إلا أن تقدمه في السن وتمسكه بالنهج التقليدي في رؤيته للعالم، قد أضعف فاعلية السياسة الخارجية للولايات المتحدة، الدولة الأكبر والأكثر تأثيرًا في عالمنا المعاصر.
لقد أمضى بايدن عقودًا في خدمة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، بل وترأسها لسنوات عديدة، مما أتاح له الفرصة للانخراط عن كثب في تفاصيل إدارة وصنع القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية خلال فترات حكم الرؤساء: ريتشارد نيكسون، وجيرالد فورد، وجيمس كارتر، ودونالد ترامب، وجورج بوش الأب، وبيل كلينتون، وجورج بوش الابن. وقبل ذلك، استعان به الرئيس باراك أوباما لسد النقص في خبرته في الملفات الخارجية الحساسة.
بعد مرور ثمانية عشر شهرًا على وجوده في البيت الأبيض، يتبين أن ما تسميه النخبة الأمريكية "النظام العالمي الليبرالي" يبدو أقل ليبرالية وأكثر اضطرابًا في أنحاء العالم المختلفة، وخاصة في دول أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة ذاتها.
وعلى الرغم من الصدمة الكبيرة التي أحدثها وجود الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض لمدة أربع سنوات، يبدو الرئيس بايدن مترددًا بشكل ملحوظ في اتخاذ أي قرارات كبيرة ومؤثرة وحاسمة من شأنها تشكيل مواقف إدارته تجاه قضايا سبق لبايدن نفسه والنخبة في حزبه الديمقراطي رفضها وإدانتها، وتعهدوا بتعديلها وإعادة السياسة الخارجية الأمريكية إلى مسارها الصحيح، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، ولا تلوح في الأفق أية مؤشرات قريبة على حدوثه.
وبعد مرور ثمانية عشر شهرًا على وصول بايدن إلى البيت الأبيض، تواجه السياسة الخارجية الأمريكية عالمًا يشهد توترات لم يعرف لها مثيل منذ نهاية الحرب الباردة في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. ولا يزال مصير الحرب الروسية في أوكرانيا مجهولًا داخل أروقة واشنطن. وعلى الرغم من المساعدات الضخمة التي قدمتها واشنطن، والتي تجاوزت قيمتها 50 مليار دولار خلال أربعة أشهر فقط، لا يبدو أن الأسلحة والعقوبات الأمريكية تحدث تأثيرًا ملموسًا على مسار الحرب أو تداعياتها في القارة الأوروبية وخارجها. وأصبحت أوروبا في مواجهة أزمة سياسية وعسكرية غير مسبوقة، ولم ينجح تعزيز شراكة حلف الناتو في طمأنة النخب الأوروبية أو الأمريكية بشأن المخططات والنوايا الروسية داخل القارة الأوروبية.
كما يقف بايدن وفريق السياسة الخارجية التابع له عاجزين أمام حسابات الداخل وتوازنات الخارج فيما يتعلق بملف التفاوض حول البرنامج النووي الإيراني، وذلك بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق في عهد الرئيس ترامب عام 2018. وتدرك النخبة الأمريكية مدى جدية سعي إيران لامتلاك سلاح نووي، خاصة بعد رفض بايدن العودة إلى الاتفاق النووي السابق فور وصوله إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2021، على عكس ما كان قد تعهد به في السابق.
ويتجنب بايدن وفريقه إثارة غضب بعض التيارات داخل الحزب الديمقراطي التي ترفض الاتفاق مع إيران، هذا بالإضافة إلى رفض الجمهوريين وحلفاء واشنطن في منطقة الشرق الأوسط لأي تقدم في هذه المفاوضات الحساسة.
وبعد مرور ثمانية عشر شهرًا على وجوده في البيت الأبيض، تستمر الصين في تصعيدها المحسوب تجاه تايوان، في ظل تكرار انتهاكاتها للمجال الجوي الخاص بالجزيرة التي تبعد حوالي 90 ميلاً فقط عن الأراضي الصينية. وعلى الرغم من التصعيد الصيني المتزايد في بحر جنوب الصين، وتعدي بكين على مناطق تابعة لحلفاء واشنطن في الفلبين وماليزيا وإندونيسيا وفيتنام، لم تتخذ واشنطن خطوات تصعيدية أو تعمل بجدية على ردع الصين، سواء من خلال التلويح بردود عسكرية أو التهديد بفرض عقوبات اقتصادية. وبالمثل، يتجاهل بايدن وفريقه حقيقة الدعم الصيني للغزو الروسي لأوكرانيا.
وبعد مرور ثمانية عشر شهرًا على استلامه منصبه في البيت الأبيض ، يظهر أن النظام الذي تسميه النخبة الأمريكية "النظام العالمي الليبرالي" يبدو أقل ليبرالية وأكثر فوضوية في مناطق مختلفة من العالم، لا سيما في دول أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة نفسها. ويتضاءل الاهتمام العالمي بالمؤسسات الدولية التي اعتمدت عليها واشنطن لعقود في تمرير رؤيتها المالية والاقتصادية والسياسية للعالم. وتواجه الهيمنة الأمريكية على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والأمم المتحدة تحديات غير مسبوقة من منافسي واشنطن، مثل روسيا والصين، ومن بعض حلفائها، مثل الهند والبرازيل ودول أفريقيا بشكل عام.
لقد اختار بايدن وفريقه التركيز على قضايا خارجية ذات أبعاد داخلية واضحة، مثل قضية تغير المناخ وحقوق المثليين جنسياً، وهي سياسات لا تزال تثير الكثير من الانقسام داخل الولايات المتحدة وخارجها على حد سواء. وعلى الرغم من ادعاء بايدن وفريقه بأنهم بصدد إعادة القيم والمبادئ الراسخة المتعلقة بحقوق الإنسان لتصبح ضمن أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أن زيارة بايدن ولقاءاته في مدينة جدة السعودية كشفت عن خواء هذه الادعاءات شكلاً ومضمونًا.
إن تأكيد بايدن لزعماء الشرق الأوسط بأن بلاده لن "تنأى بنفسها وتترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران" يمثل إشارةً واضحة إلى أن محددات السياسة الأمريكية تجاه المنطقة تعتمد في المقام الأول على المصالح، مما يصعب من أي منافسة دولية لها على النفوذ في المنطقة. إلا أن بايدن وفريقه يتجاهلان واقع تنافس الدول الكبرى، سواء من حلفاء أو أعداء واشنطن، على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، بل ويتجاهلون كذلك ميل العديد من الحكام والشعوب العربية إلى تبني النموذج الصيني والروسي في إدارة شؤونهم الداخلية.
لقد ذهب بايدن إلى المنطقة في لحظة يواجه فيها العالم أخطاراً اقتصادية وأمنية هائلة، ولم يحصل إلا على تعهدات نفطية لن تحل أزمة طاقة عالمية معقدة، ومع ذلك يحتفل بايدن وفريقه بنجاح زيارة قام بها رئيس يواجه أزمة حقيقية لمنطقة لا تزال تعاني من عدم الاستقرار.